تعثّر سير المعاملات الإدارية
ثم إنّ الإجراءات الصحيحة بتوحيدها بعمليّات القرارات لكل نوع من الأعمال المتشابهة من شأنها أن تقلل من التفكير بالنسبة إلى الموظفين والإداريين في الأعمال التي يقومون بها، ثم البقاء على الإجراءات السابقة قد يقود إلى ارتكاب بعض المخالفات والأخطاء، إذ الحالة الجديدة تختلف عن الحالة التي وضعت لها تلك الإجراءات، فالإجراءات بعد مرور مدّة من الزمن كحدوث حالات استثنائية، كالحرب ونحوها بحاجة إلى دراستها بهدف تسهيلها ورفع المرض الحادث فيها الموجد للفوضى، والاضطراب، وحرق الأوقات، والتذمر، والتضحية ببعض مال المراجعين، فإنّ مرور المعاملة في عدد من المراحل غير الضرورية والخطوات غير اللازمة يؤدي إلى إبطاء سيرها نتيجة لتجزئة كل إجراء إلى عدة عمليات اختصاصية تسند إلى عدد من الموظفين، ومرور المعاملة على عدد كبير منهم لاتخاذ الإجراءات عليها فإنه يؤدي إلى تأخيرها، كما أن وجود الخطوات غير ضروريّة كالإكثار من عمليات قيد وتسجيل المعاملة لأغراض الرقابة يؤدي إلى تأخيرها، كما تؤدي كثرة السجلات وكثرة الرجوع إليها إلى تأخير سير المعاملة وإلى تكديس المعاملات أمام الموظف المختص، وكثيراً ما يضيع السجل الخاص عند موظف خصوصاً في بلدان العالم المتأخر، وتؤدي إلى عمليات اللف والدوران في المعاملة وذلك يؤدي إلى تأخيرها أيضاً وهناك حالات تمر فيها المعاملة على جهة واحدة أو موظف واحد عدة مرات لاتخاذ الإجراء المحدد عليها وبما يوجب أن يراجع المراجع هذه الدائرة مرة ثم إلى دائرة ثانية، ثم يرجع إلى الدائرة الأولى، ويعود السبب في تجوال المعاملة بين المكاتب إلى عدم ترتيب هذه المكاتب ترتيباً يتوافق مع تسلسل الخطوات في إجراءات المعاملة وإلى عدم تجميع العمليات المتشابهة مع بعضها في مكان واحد أو عند موظف واحد وكثيراً ما يكون اللف والدوران من جهة أن الإداريين لا يريدون حدوث الأخطاء في أعمالهم، مثلاً يرجع المراجع إلى المدير ثم يرجعه المدير إلى المدير الذي تحته، فالمدير الذي تحته إذا أكمل العملية يرجع المراجع إلى المدير الذي هو فوقه أيضاً حتى يتحقق المدير الذي فوقه من صحّة إمضاء المدير الذي تحته وعدم خطئِهِ وحتى يحققوا هذا الهدف فإنّهم يكثرون من أعمال التدقيق لأجل إحكام الرقابة على الأعمال، وإذا أخذنا المعاملات المالية على سبيل المثال، فإننا نلاحظ أن المعاملة تمر على عدد كبير من الموظفين، لأجل تدقيقها وتوقيعها، وربما يكون المبلغ الذي تحتويه المعاملة مبلغاً صغيراً لا يستحق بذل تلك الجهود بل إذا قورن ذلك المبلغ بالمبلغ الذي يصرف من الوقت والمال لأجل اللف والدوران يكون المبلغ المطلوب أقل من المبلغ الذي يحرق لأجله المال والوقت وقد تسجل المعاملة عدة مرات، عندما تنتقل من مكتب إلى مكتب آخر، خوفاً من ضياعها، وتحمّل الموظف مسؤولية فقدانها، وهكذا تكون الإجراءات واللف والدوران تؤثر على نفس الموظفين فإن الموظف يضطر أحيانا إلى الذهاب إلى غرف أخرى غير غرفة مكتبه وذلك بسبب عدم وضع السجلات ومصادر المعلومات اللازمة لقيام الموظف بأعماله قريبة منه، فإنّ كثرة تنقّل الموظف، تؤدي إلى إضاعة الوقت وبالتالي إلى تأخير إنجاز المعاملة، وكثيرا ما يضطر المراجع إلى إعطاء الرشوة، لتقصير الطريق على نفسه، ولذا تتفشى الرشوة في كل بلدان العالم الثالث بشكل فظيع جدّاً، وسبب الرشوة وإن لم يكن هذا فحسب، لكنّه من أسبابها المتفشية والشائعة فإنّ المراجع يريد تدارك اللف والدوران والذهاب والمجيء والوقوف في الصف واحتراق وقته، بإعطائه شيئاً للموظف المسؤول أو لعدة موظفين.
ومن الواضح أن الموظف المسؤول حتى إذا كان مسلماً قد يأخذ الرشوة فإن المال مغر والتدين الضعيف لايقف أمام مثل هذه الأمور إذا لم تكن هنالك رقابة، والمفروض عدم وجود الرقابة، أو أن الرقيب هو أيضاً رجل يأخذ الرشوة لأجل تسيير أموره، وفي الدوائر الحكومية لا يمكن قطع الفساد والرشوة والمحسوبيّة والمنسوبية وغير ذلك إلا بتعدد الأحزاب الحرة المتنافسة على الحكم في انتخابات حرة حتى تكون هناك حكومة في الظل تراقب هذه الحكومة التي في العلن، وإذا رأت الحكومة في الظل أن الحكومة التي في العلن تأخذ الرشوة أو تعمل أعمال خلاف الموازين فإنها تنشر في صحفها ما يوجب إسقاط الحكومة الظاهرة كلاًّ أو بعضاً، فغير هذا العلاج لا يكون علاجاً ناجحاً، والرشوة وإن كانت ملاحظة أيضا في ظل حكومات التعدديّة السياسية،إلا أنها قليلة جدّاً، إذا قيست بالرشوة في الحكومات الاستبدادية فلا تكون إلاّ جزءاً من مائة جزء، أو في نسبة أقل.
نعم لا إشكال في تأثير التربية والوازع الديني، وغير ذلك في تقليل الرشوة.